قصة قصيرة بعنوان ( وعد ) للكاتب يسري ربيع داود



قصة قصيرة
الكاتب : يسري ربيع داود

                           
                                   #وعد

في البدء كانت الكلمة، وكانت النظرة، و الابتسامة،  ثم اللقاء. وحدها هي من تتذكر الكلمة وتتذكر ما تبعها من أوجاع. 
في وقت الأصيل على صخرتها الصماء الرابضة على شاطئ النهر جلست "  وعد" تسترجع الذكريات، ساحت بذاكرتها شوارع القرية، وترعتها ، وشجرة الكافور التي كانت مكان اللقاء في ذلك الوقت كل  خميس حيث تفيض الاشواق وتتجدد  كل لقاء، وتتعدد الأمنيات المصحوبة بابتسامات، ونظرات تشع بالأمل والفرح، وكانت شدة الفرحة حينما حددا سويا موعد لقائه مع والدها ليكتمل عقدهما ولتكون البداية لإطفاء الشوق وناره بأحضان اللقاء. 
تبتسم وعد وهي على صخرتها، يظن الناظر إليها انها جُنّت، ولكن الناظر الخبير يستطيع أن يربط تلك البسمة بالحزن البادي على نظرات العيون المصوبة على صفحة النهر الساكن، الذي يشاركها السكون فلا يتحرك حتى لا يقطع على وعد حبل أفكارها. 
تبدو الحياة على شاطيء النهر مزعجة على مرمى البصر، حيث تجتمع الأسر ويزداد صخب الأطفال وثرثرات المجالس ، لكنها اختارت المكان الهاديء، وإن شئت فقل اختارته مع حبيبها المسافر دونما رجعة طيلة السنوات الثلاث الماضية، وانقطعت أخباره عنها إلا من رسائل أخته" حنين " لها. 
      قدمت لترى الشمس مخنوقة تذرف الدماء من أجل أن يطلع القمر ببهائه لينير الظلمات، لا يختلف حالها كثيرا مع الشمس فكلاهما مخنوقتان تذرفان، وإن كانت الشمس تنثر الدماء، فوعد تنثر دموعا تأبى أن تجف لاسيما مع إصرار والدها على زواجها بابن عمها. 
تلتقط حصاة من أسفل الحجر الذي تجلس عليه، تلقي به قريبا من الشاطيء فيصنع دوائر متتالية، متباعدة تارة، ومتقاربة تارة أخرى ، ترى خلالها وجهه الأسمر بسمرة مياه النيل يتباعد ،. يتقارب، ويتراقص ، فتتعالى الأنفاس ويحتد النظر لعلها تجمع تلك الملامح التي نقشتها في حنايا القلب، ومناطق الذاكرة. 
تهدأ الأمواج فتبدو ملامحه المصرية الأصيلة، بعينيه العسليتين الغائرتين ، وشعره القصير الأجعد، و ملامحه الشابة الفتية ، وفمه السليماني المبتسم، وعندما تتحقق من ابتسامته على صفحة النهر الراقص تبتسم ابتسامة البلهاء المصحوبة بالدموع على حلوى في دكان بائع بخيل لا يكترث بدموعها، ابتسامته لم تكن تفارقه ابدا ، يبتسم لها عبر النهر فتغيب عن الواقع، يشير إليها بالتقدم نحوه ليرقصا معا رقصة الغروب، تتماهى وعد مع دوائر المياه الهادئة. 
تنتفض  عندما تشعر بشيء يمر بجانب اذنها، يسقط في النهر فيثير وجه حبيبها، يزداد رقصه حتى غابت ملامح وجهه، تنظر خلفها فتجده، نعم هو بشحمه ولحمه، هكذا رأته بقلبها قبل عينها، قامت ملهوفة، حب الدنيا تجمع في قلبها الصغير الذي لم يستوعبه، فارتجف رجفة كادت وعد أن تسقط فاقدة وعيها، تماسكت، ثبتت، فتحت يدها لتعانقه ، و تراقصه كما كانت تفعل منذ قليل في خيالها، تدفعه بلطف ، لتشبع من النظر لعينيه، تضيع فيهما برهة وتتذكر أن اشواقها لم تنطفيء بعد، فتعاود العناق ، تتركه لتعاتبه. بصوت متهدج،وأنفاس متلاحقة، ولوعة واشتياق تفيض من عينيها وصوتها، يقابله الفتى الاسمر بابتسامة لم تفارق وجهه، ولم يتكلم، لأن الطيف لا يتكلم ولكنه يتمثل لحظة واحدة من لحظات ابتسامة الحبيب ، قالت له بكل انكسار :
_ لماذا هنت عليك؟
لماذا تركتني وحدي، وقد وعدتني ونحن تحت شجرتنا العجوز بأنك سوف تعود، طالت غيبتك يا حبيبي، الم يكفك غياب كل تلك السنوات؟ لم احتمل غيابك حتى رموني بالجنون، و طالتني الألسنة والنظرات،. حتى أصبحت هدفا أُرمى صباحا ومساء من كثرة رفضي للزواج، الحمد لله ان عدت  لتنتشلني من دوامة تلك النظرات، واعادتي للحياة ، نفذت مني الحجج ولم أعد قادرة على الكذب والخداع، تعب ابي واخوتي مني لدرجة ان  ابي مد يده عليّ ليضربني وهذه هي المرة الأولى التي يتعامل معي فيها بالقسوة بعد أن كانت هذه اليد هي التي تربت علي وتمتد لي بالخير. تعالى يا حبيبي لترى ما كنت أفعله، تعالى لترى وجهك على صفحة النهر، انا...انا  رسمته بحصاتي على النهر الخالد، انظر ابتسامتك، انظر كيف كنا نرقص.. انظر.... لماذا لا تنظر؟ 
تكسرت نفس والدها حينما سحب يده من يد ابنته، وبيده التي امتدت لضربها يوما، أعاد التربيت على كتفها، قائلا لها : هيا يا ابنتي إلى البيت فهذا هو موعد ذهابنا إلى الطبيب المعالج.
.................

#اهداء
من رحم المعاناة تولد الفكرة، وللفكرة دائما مصدر وملهم، لذا وجب عليّ شكره ألف مرة طالما قرئت الفكرة وأعجب بها الناس.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الام //للشاعر مصطفى مزريب//

المرأة نصف الدنيا // الشاعر والكاتب مصطفى مزريب //

فقدان //بقلم ـ الأديب " الشاعر رضوان العصيوي

قصيدة من الزجل الروحي: بشائر النصر.** بقلم**الحسن العبد بن محمد الحياني

حنين المحب // الشاعر محمد الحسون

مالي أراكِ على كل الوجوه : بقلم الشاعر الذواق احمد احمد

الشاعر مصطفى مزريب //  بمناسبة ذكرى عيد الأم //

الاستاذ /مصطفى مزريب /لن تموت امتي

حوار مع العراف/// الشاعر /// السيد سعيد سالم

حكاية شعب /.بقلم… الشاعر خالد محمود البطراوي