نص بعنوان ((حين تتعاظم مطامح الأرضة)) بقلم الأستاذ(أبو القاسم محمود)

 حين تتعاظم مطامح الأرضة



تجلس بحذاء الباب الخشبي المتآكل، عيناها الغائرتان تشيان بكل الذي خبأته حتى لا تبدو في وضع يستدعي العطف، تفترش قطعة حصير من پلاستيك، خيوطه المنفوشة تخبر بتجاوزه سن الصلاحية..

عرفتها شجاعة لا تلين أمام تباريح الزمن، تغيرت واجهات البيوت وبقي بيتها على حاله وفيا لشكله ولونه !

 أذكر كم مرة قطعت كراتنا نصفين كلما أزعجناها وقت القيلولة :

- تعالوا لتستلموا طرابيشكم، كنا نهرب منها خوفا من وعيد تهددنا به في كل مرة..

حال أقبض عليكم سأعيد ختانكم !

ظلت هي وابنتها سعاد وحيدتين منذ فارق الزوج الحياة متأثرا بنزيف نتج عن لغم أرضي ٱنفجر بسيارته العسكرية، 

لم يكن قد أكمل سنوات خدمة تتيح لأسرته الحصول على تقاعد، حتى التأمين كان هزيلا جدا بحيث لم يكفي حتى لمراسيم الدفن والعشاء!

عاشتا بيننا قبل أن تنقلب الموازين وتتغير الأولويات بنفس المستوى المعيشي حيث كنا نقتسم الأطباق والأرغفة !

كنا كالجسد الواحد قبل أن تعانق بواباتنا الأقفال..

- أين سعاد ؟ سألتها 

تسللت دمعة متمردة بللت تجاعيد خدها، وهي تفتح شفتيها لتخبرني توقف الكلام في ثغرها، توالى شلال الدمع غزيرا وكأنه يطفئ حريقا أشعلته أسئلتي..

وضعت يدي على رأسها متأثرا , وحين هممت بمحاولة مواساتها شفويا ٱختلطت علي المفردات.. 

-المؤمن مصاب المؤمن مصاب..

- ونعم بالله ونعم بالله .. 

شممت في (ملحفتها) وبين خصلات شعرها عبق الماضي، تذكرت الوالد والجيران والأحبة، وكيف كانت هذه الجدران الطينية تنبض بالحياة والحب..

- ماذا تغير ؟ تساءلت 

صارت واجهات البيوت أجمل وقلوب الناس غزاها السواد..

دعتني لشرب الشاي، كان كل شيء معد، الصينية، الجمر يغالبه النعاس وفوقه إبريق شاي يغلي بهدوء، أثاث بسيط، وفيما انهمكت في تقليب الكؤوس سافرت عيناي بين فراشها الدافئ رغم البؤس، اعترتني طمأنينة عظمى تحت هذا السقف الخشبي المتهاوي ، البراويز المعلقة على الجدار ، صورة للزوج وأخرى لسمية والثالثة لصبية متعانقين وجوههم غير واضحة تماما..  ماذا تعني هذه الصورة؟

هل هو إيحاء لموت البراءة والإنسانية؟

هي لوحة بالتأكيد، وأنا لا أجيد قراءة هذا الصنف من الفنون التشكيلية ..

عرفت أن سمية فارقت الحياة نتيجة مرض الربو الحاد، ورغم  تعهد الوزارة بتوفير البخاخ لكن الوسيط لم يكن أمينا مما أدخلها في نوبات تنفسية عصيبة أودت آخرها بحياتها ..

-ذهبت بنيتي ولم تأخذ من هذه الدنيا شيئا ! لن أسامحه، قيل لي أنه كان يبيع أدوية المعدمين في السوق السوداء ..

نحن خصماؤه يوم القيامة..

تحتضن صورتها، وتئن .. 

هدأت من روعها قليلا، مستعينا بآيات قرآنية.

صبت لي كأس شاي، شربته مخلوطا بلحظة ٱختناق،  عبأت الإبريق ثانية، زادت بعض حبيبات الشاي ووضعته على الجمر، وبدأت سرد قصتها :

كانت كلما تذكرتنا الإنسانية بكيس دقيق وصل لبيتي دون عناء، في السنوات الأخيرة ونتيجة للسرقات التي تتعرض لها حصص المعدمين  أقروا ضرورة الحضور!!

عميت بصائر الناس،  ليتني ما ذهبت يا ولدي، ليتني مت قبل هذا اليوم، قبل أن يتبدى لي عري الإنسانية..

يا إلهي، كيف ينام هؤلاء ؟! 

هل يتعلق الأمر بصنف بشري طالما أخبرني عنه زوجي رحمه الله كلما عرج على علامات قيام الساعة قائلا : (سيعيش على هذه الأرض قوم يسرقون الكحل من العين .. هيأة بشر وقلوب وحوش..)

كان يردد دائما : (الله يدينا فالضو) وقد أظلمت الدنيا من بعده ..

استطردت على نغمات حشرجة:

لقد وزعوا الغنيمة بينهم، وحدهم الأغنياء استولوا على كل الحصص! خاطت سياراتهم  الطريق جيئة و ذهابا محملة بحقوق البائسين !

جئت دون حصة هذا المساء، لم أكن في مستوى المعركة يا ولدي.. وأمام هول اللهفة اخترت أن تكون حصتي مؤجلة هناك .. هناك حيث تبتل خشبات المشانق على وقع العدالة!

هنا (مستورة ولله الحمد)


-أبوالقاسم محمود/المغرب

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

سلام على تلك العيون… بقلم الشاعر اسماعيل هريدي

قصيدة بعنوان شييطان الشعر**بقلم الاستاذ عماد صابوني وشارك بالردود الاساتذة ثريا العبيدي **ندى الروح**اميرة الحياة**ليلى الجلالي

قصيدة //اين انتم يا عرب ؟؟؟؟؟ااالشاعر عبد النور اوشام محمد كوبا

خبز التنور // بقلم الكاتب والشاعرمصطفى مزريب.أبوبسام جبلة.سورية

قصيدة من الزجل الروحي: بشائر النصر.** بقلم**الحسن العبد بن محمد الحياني

عتبي عليك يا زمن ...بقلم... علي حسن

اضناني الشوق ........بقلم الشاعرة فاطمة الفاهوم

چلمه.. چلمه... بقلم الشاعر...علي الخليفاوي

حوار مع العراف/// الشاعر /// السيد سعيد سالم

أُحبك ///بقلم الشاعرة///بقلم امل ابو سل