لوز ومكسرات .. بقلم ..جمال الشعري
لوز ومكسرات
على طاولة من الخشب تعتليها مرآة من الزجاج وضعت زوجتي الجميلة طبق من المكسرات والحلوى.
أقف أمام المرآة على سحنةٍ لا أتعرف عليها، عريس حديث مثلي تم الاهتمام ببشرته ودقنه النابت بعناية.
بقبضتيّ أشد أطراف معطفي، أقلب ملامحي على صور مختلفة، تلمع أسناني الحديثة، الحديثة والجديدة أيضاً؛ بانت كذلك بعد جهدٍ عانت من أجله طبيبة الأسنان قُبيل موعد زفافنا.
تصحو عروستي على شفتاي المنفردتين وأسناني البارزة، من بينهما تصارع لساني على الخروج وصناعة كاركتر آخر، وبصمتٍ شاهدتني، تضع كفيها على فمها وأنا أقلب صوري المختلفة أمام المرآة، تحاول كتم تلك الضحكة، ألمح لمعان عينيها، خيم الصمت لثوانِ، ثوانِ فقط، ثانية .. وثانية ..وثانية ثم تنفجر بيننا ضحكة تهتز بسببها أعمدة الكون ...
خارت قدماي من شدة الضحك، وبقى جسدي متكأً على الطاولة التي تحمل المرآة خلفي، تقف زوجتي الجميلة، وكهالة مضيئة أنارت ما حولي، أعادت لي ترتيب معطفي، رشت العطر على عنقي، وفي محاولة فاشلة لإخفاء شيء ما تضع طرف إصبعها على منحدر صغير أسفل ذقني، يرتفع حاجباها، تجحظ عيناها، تحاول إخفاء آثار شقائها ليلة البارحة، أول الليال التي تجمعنا معا وعلى سريرٍ واحد.
ألتفت للمرآة، أرى احمرارا بشكل شفتيها مطبوع أسفل اصبعها، بشفتين مكتومين وبعينين حُدبتا ألتفت لها، أغمز. ونضحك .. نضحك جميعا .. ركزوا معي وحاولوا أن تربطوا خيوط الحكاية، قلت لكم ضحكنا جميعاً.. حتى ظننت أن كل أهل المدينه يسمع دوينا.
وفي ثوانٍ وقبل أن أتهيأ للحديث وضَعت حبات من الزبيب والمكسرات في جيبي.
_ كنتِ أكثر شقاءً وأمتع أنثى
أقول .. وعيناها تسكن نواة دائرية في عيني، بحركة سريعة استطاعت اخفاء عينيها عني خجلا .. تهرب .. تهرب .. ثم تهرب.
كان عليّ أن أتركها وخجلها والخروج، من عاداتنا نحن اليمنيين أن نستقبل الضيوف في اليوم التالي من الزفاف ونقوم بواجب الضيافة .. إعتدلت، بقبلة سريعة وعبر الهواء الذي يعزل كلينا عن بعضنا ودعتها.. وودعتني.
أفتح باب حجرتي، جموع كثيرة خلف الباب، بدا والدي شاحبا وكئيبا كثكلى فقدت أطفالها، والدتي كذلك، تحاول أن تخفي دمعها المنساب، شقيقاي أيضا وشقيقاتي .. يتأملونني في صمت، بصمتٍ وحرقة.
تحولت نصف شفتيّ الضاحكتين خلال فترة إغلاقي لمنفذ حجرتي إلى شفة واحدة وعابسة ، تعرج أيضا حاجباي غضباً وغيرة، وبينما رأيت دمعة دسمة تكسو جفني أخي الأكبر صرخت في وجهه، وجهت قبضتاي أهزه.. لم تبكي .. لم تبكي
ها أنا تزوجت .. لم تفسدون علي فرحتي .. لما لما.
تنفجر أمي باكية .. تشهق .. تضع خدها على جدار الممر .. تدريجيا رأيتها تسقط.. وتسقط .. ثم تسقط للأرض.
في وجع كنت أدنو منها متعجبا
_ ليش تسرقوا مني فرحتي؟!
أقول لها ناقدا .. وناقما أيضا
_ الله يسرق منه فرحته اللي سرقها منك يا ولدي .. الله بيأخذ حقك من اللي سرق منك فرحتك في يوم عرسك .. هم اللي سرقوا فرحتك وسرقوا فرحتنا بك ي ابني .. هم ..هم ..هم
تقول وتبكي .. أضع كفيّ حول رأسي، أدور وتدور حولي كل الكواكب، كل الكواكب باستثناء زحل .. ظننته عاويا باكيا كمن هم حولي الآن.
_ أنا عريس..
أقول بعد أن توقفت كل الكواكب عن الدوران حولي، إلا الأرض، مازالت تفقدني السيطرة على الثبات.
_ أنا عريس .. عريس
ينخفض صوتي تدريجيا
_ عريس
تعجز قدماي حملي، مر وقت وقوعي بطيئاً، وكإنها المسافة التي تفصل برج إيفل بالأرض، وجدتني قرب والدتي، يدنو مني والدي، يضع كفيه ع رأسي.
_ستكون بخير ابني .. ستكون كذلك.
يقول والدي المتحدث الجيد
_ أبي أنا بخير.. وحياتي الآن أفضل .. أنا محظوظ بزوجتي .. محظوظ بها جدا.. هي اللي أضحكتني اليوم .. هي اللي رشت لي العطر.
ألتفت لأمي، يغشى خديها الدمع، أضع متحسراً متعجباً حبات من الزبيب على كفي ثم أكمل :
_ وأكلتني لوز وزبيب .. زوجتي مثلك يا امه .. حنونه وطيبة .. وتحبني مثلكم.
أقول متلعثما؛ أرى كل من حولي يخفون عني وجوههم، وكجبلٍ أنفجر بركانه فجأةٍ يهتز ظهر أبي، أمي الوحيدة التي لم تستطع مواراة شهقاتها عني، شقيقي الأكبر يبكي بحرقة ... بحرقة وألم وبلا خجل .. تعالت الشهقات.. وتساقطت الدمعات .. حتى ظننت أن سيلا عارما سيغرق المدينة.
أجهل سبب بكائهم، أتتبع دمعة والدتي الأخيرة، قرب قدميها استقر نظري، ستارة سوداء تهبط من الأعلى للإسفل أمامي .. أحاول بعدها أن أرى شيئا ولا أفلح، الظلام والألم كل ما اراه الآن.
حل الليل، سمرٌ بهي يجمعني وعروستي، وليلة راقصة من ألف ليلة وليلة، حل الصباح، أغلق باب حجرتي، أتركها وحيدة بعد اهتمامها بي.
ونفس المشهد يتكرر هذا الصباح أيضاً، أفراد عائلتي خلف الباب، أفتح فمي، أرمي حبات صغيرة من العنب المجفف، حبة، حبة، ثم حبة يلتهما فمي، تمر عبر حنجرتي وحيدة وكئيبة، دون مذاق، أسمع شهقات أسرتي،أتساءل عن سبب يجعلهم يذرفون كل هذه الدموع ولا أجد إجابة، وأبكي جهلاً تضامناً معهم.
ها أنا أدخل الداومة نفسها من الألم والخوف والحزن والتساؤل.
مر يوم آخر، وأخي القوي يبكي أمامي مرة أخرى.
سيء ما يحدث لي كل صباح، كأن تستيقظ على جنازة لمقتولٍ بالظلم، تحمل أحد أركانها وتتوعد قاتليه بالإنتقام.
وفي فضول من يريد أن يعرف ماذا حدث في هذا العالم أثناء نومه كنت أتساءل .. أتساءل .. لا أجد تعليلاً.
مر يومان، ثلاثة، أسبوع، في كل صباحٍ ينتظرونني خلف الباب ويبكون.. طبق زوجتي أصبح فارغاً من اللوز والزبيب، عينا والديّ بدتا متورمتان وكأن عليهما آثار تعذيب، عينيّ شقيقيّ وشقيقاتي أيضاً اتسعت حدبتهما.
مر يوم جديد، قال لي أخي أنه سيأخذني برفقة والدي لنزهة، لم يتركوا لي فرصة رفقة زوجتي.
على كرسي مكتبٍ فارهٍ وجدت نفسي، أشرد في خيال أوقاتي التي جمعتني بزوجتي في ليالينا الملاح وأوقات مرحنا.
يدور حولي حديث أجهل تفاصيله ( أخي ووالدي مع من استقبلنا في مكتبه ).
هم منشغلون بالحديث عما يشغلهم.. وأنا منشغل فقط بها .. بها فقط أجد سعادتي .. أتذكر قطعة الحلوى التي أطعمتني بكفيها، ثم أبتسم... أبتسم .. وأبتسم.
أدس يدي في جيبي، أتحسس آخر الحبات التي وضعتها لي صباحاً، أرى ابتسامتها أمامي .. تمر قرب عيني الجنة .. أبتسم .. وأبتسم ثم أبتسم...
يقطع ابتسامتي صوت مضيفنا، عرفت فيما بعد أنه طبيب نفسي.
_ إنه يمر بصدمة عاطفية .. عصبية .. أفقدته ذاكرته.
يقول مضيفنا، تلاشت صورة زوجتي من أمامي تدريجياً، يختفي قميصها القصير، وكفيها العاريتين، ثم رقبتها، أراها وكما لو أنها لوحة مزيفة رُسمت بالرصاص، بقت إبتسامتها بعد أن تلاشت أمامي كل ملامح جسدها.
_ يجب إن يتعرض لصدمة أخرى تنسيه هذه الحادثة.. حادثة وفاة زوجته ليلة زفافها.
يقول الطبيب مُحدثا والدي، يمر في رأسي شريطا من الأحداث، وكما لو أني أتابع فيلما سينمائيا صُنع على يد منتجٍ سادي كنت أشاهد القذائف تسقط على صالة زفافنا، يتدافع الناس حولي وترتفع أصوات النجدة والنحيب من الصالة ولا أفعل شيئا ...
_ قُتلت العروس وعدد من المهنئات .. وأصيبت أخريات.
ذاك الصوت أيضا تذكرته، يهز سندان أذني، يمر حولي الضجيج نفسه، أضع حبة من الزبيب على فمي، أحاول ابتلاعها، احترقت عينايا ودمعتا ومخاطٌ لزج يسيل من أنفي إلى فمي المفتوح، مالحاً مقرفا، ألهث بشدة، يكاد صدري يقفز إلى الخارج، تتقوس شفتاي للأسفل، تنكمش عيناي، يهتز جسدي، وحين شهقة لم أستطع ابتلاعها.. بكيت، بكيت، ثم بكيت، أبكي بشدة وبحرقة.
_ بس يا إبني .. أحرقت قلوبنا عليك.
يقول أبي الذي بدا كقطعة أرض أصابها زلال بقوة مائة ريختر، يهتز ويجهش بالبكاء ..
أخي أيضاً كان متوارياً ضعيفاً ويبكي.
ومن شلالات شاهقة للبكاء، يمضيا بي من شهقة إلى أخرى، بحرقةٍ وألمٍ كبيرين وبعكس المرات السابقة، الفرق أنني هذه المرة أعرف سبباً لبكائهما.
جمال الشعري
اتركووووووه بمخيلته الواسعة يعيش كل التفاصيل .. لا تقاطعوه .. استمروا من حوله بالتمثيل معه فالجنون ارحم له من الم الفراق .. لا تنسوا اجلبوا الطبيب النفسي فنحن بحاجة اليه لعله يقنع تلك القذائف الصلبة بان الله جعل فيها رحمه إذا ما عادت فوههاتها لتنسف كل قاتل فرحة .. لتقتل كل شاذ عن الفطرة
ردحذفتحياتي لك ولاحساسك الرائع كاتبنا الجميل جمال